فصل: سنة تسع وثمانين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة تسع وثمانين:

.ذكر غزو الروم:

قيل: في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم فافتتح مسلمة حصن عمروية، وفتح العباس أذرولية، ولقي من الروم جمعاً فهزمهم.
وقيل: إن ملسمة قصد عمورية فلقي بها جمعاً من الروم كثيراً فهزمهم وافتتح هرقلة وقمونية، وغزظا العباس الصائفة من ناحية البذندون.

.ذكر غزو قتيبة بخارى:

في هذه السنة أتى قتيبة كتاب الحجاج يأمره بقصد وردان خذاه، فعبر النهر من زم، فلقي الصغد وأهل كش ونسف في طريق المفازة فقاتلوه، فظفر بهم ومضى إلى بخارى فنزل خرقانة السفلى عن يمين وردان، فلقوه في جمع كثير، فقاتلهم يومين وليلتين فظفر بهم، وغزا وردان خذاه ملك بخارى فلم يظفر بشيء، فرجع إلى مرو وكتب إلى الحجاج بخبره، فكتب إليه الحجاج أن صورها لي، فبعث إليه بصورتها، فكتب إليه الحجاج أن تب إلى الله، جل ثناؤه، مما كان منك وأتها من مكان كذا وكذا، وكتب إليه: أن كس بكش وانسف نسف ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعنب من ثنيات الطريق.
وقيل: إنما كان فتح بخارى سنة تسعين، على ما نذكره.

.ذكر ولاية خالد بن عبد الله القسري مكة:

قيل: وفي هذه السنة ولي خالد بن عبد الله القسري مكة، فخطب أهلها فقال: أيها الناس أيهما أعظم، خليفة الرجل على أهله أو رسوله إليهم؟ والله لو مل تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاه ملحاً أجاجاً واستسقاه الخليفة فسقاه عذباً فراتاً، يعني بالملح زمزم، وبالماء الفرات بئراً حفرها الوليد بثينة طوىً في ثنية الحجون وكان ماؤها عذباً وكان ينقل ماءها ويضعه في حوض إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم، فغارت البئر وذهب ماؤها فلا يدرى أين هو اليوم.
وقيل: وليها سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة أربع وتسعين، وقد ذكرناه هناك.

.ذكر قتل ذاهر ملك السند:

في هذه السنة قتل محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، يجتمع هو والحجاج في الحكم، ذاهر بن صعصعة ملك السند وملك بلاده، وكان الحجاج بن يوسف استعمله على ذلك الثغر وسير معه ستة آلاف مقاتل وجهزه بكل ما يحتاج إليه حتى المسال والإبر والخيوط، فسار محمد إلى مكران فأقام بها أياماً ثم أتى قنزبور ففتحها، ثم سار إلى ارمائيل ففتحها، ثم سار إلى الديبل فقدمها يوم جمعة، ووافته سفن كان حمل فيها الرجال والسلاح والأداة فخندق حين نزل الديبل بد عظيم عليه دقل عظيم وعلى الدقل راية حمراء إذا هبت الريح أطافت بالمدينة، وكانت تدور، والبد صنم في بناء عظيم تحت منارة عظيمة مرتفعة، وفي رأس المنارة هذا الدقل، وكل ما يعبد فهو عندهم بد.
فحصرها وطال حصارها، فرمى الدقل بحجر العروس فكسره، فتطير الكفار بذلك، ثم إن محمد أتى وناهضهم وقد خرجوا إليه فهزمهم حتى ردهم إلى البلد وأمر بالسلاليم فنصبت وصعد عليها الرجال، وكان أولهم صعوداً رجل من مراد من أهل الكوفة، ففتحت عنوة وقتل فيها ثلاثة أيام وهرب عامل ذاهر عنها وأنزلها محمد أربعة آلاف من المسلمين وبنى جامعها وسار عنها إلى البيرون، وكان أهلها بعثوا إلى الحجاج فصالحوه، فلقوا محمداً بالميرة وأدخلوه مدينتهم، وسار عنها وجعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهراً دون مهران، فأتاه أهل سربيدس فصالحوه، ووظف عليهم الخراج وسار عنهم إلى سهبان ففتحها، ثم سار إلى نهر مهران فنزل في وسطه.
وبلغ خبره ذاهر فاستعد لمحاربته وبعث جيشاً إلى سدوستان، فطلب أهلها الأمان والصلح، فآمنهم ووظف عليهم الخراج، ثم عبر محمد مهران مما يلي بلاد راسل الملك على جسر عقده وذاهر مستخف به، فلقيه محمد والمسلمون وهو على فيل وحوله الفيلة، ومعه التكاكرة، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع بمثله، وترجل ذاهر فقتل عند المساء ثم انهزم الكفار وقتلهم الملمون كيف شاؤوا، وقال قاتله:
الخيل تشهد يوم ذاهر والقنا ** ومحمد بن القاسم بن محمد

أني فرجت الجمع غير معردٍ ** حتى علوت عظيمهم بمهند

فتركته تحت العجاج مجندلاً ** متعفر الخدين غير موسد

فلما قتل ذاهر غلب محمد على بلاد السند وفتح مدينة راور عنوةً، وكان بها امرأة لذاهر فخافت أن تؤخذ فأحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها.
ثم سار إلى برهمناباذ العتيقة، وهي على فرسخين من المنصورة، ولم تكن المنصورة يومئذٍ، كان موضعها غيضة، وكان المنهزمون من الكفار بها، فقاتلوه ففتحها محمد عنوةً وقتل بها بشراً كثيراً وخربت.
وسار يريد الرور وبغرور فلقيه أهل ساوندرى فطلبوا الأمان فأعطاهم إياه واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ثم أسلم أهلها بعد ذلك. ثم تقدم إلى بسمد وصالح أهلها، ووصل إلى الرور، وهي من مدائن السند على جبل، فحصرهم شهوراً فصالحوه، وسار إلى السكة ففتحها، ثم قطع نهر بياس إلى الملتان فقاتله أهلها وانهزموا، فحصرهم محمد فجاءه إنسان ودله على قطع الماء الذي يدخل المدينة فقطعه، فعطشوا فألقوا بأيديهم ونزلوا على حكمه فقتل المقاتلة وسبى الذرية وسدنة البد، وهم ستة آلاف، وأصابوا ذهباً كثيراً، فجمع في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه من كوة في وسطه، فسميت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج الثغر، وكان بد الملتان تهدى إليه من كوة في وسطه، فسميت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج الثغر، وكان بد الملتان تهدى إليه الأموال ويحج من البلاد ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده ويزعمون أن صنمه هو أيوب النبي صلى الله عليه وسلم.
وعظمت فتوحه، ونظر الحجاج في النفقة على ذلك الثغر فكانت ستين ألف ألف درهم، ونظر في الذي حمل فكان مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، فقال: ربحنا ستين ألفاً وأدركنا ثأرنا ورأس ذاهر.
ثم مات الحجاج، ونذكر أمر محمد عند موت الحجاج إن شاء الله تعالى.

.ذكر استعمال موسى بن نصير على إفريقية:

في هذه السنة استعمل الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير على إفريقية، وكان نصير والده على حرس معاوية، فلما سار معاوية إلى صفين لم يسر معه، فقال له: ما يمنعك من المسير معي إلى قتل علي ويدي عنك معروفة؟ فقال: لا أشركك بكفر من هو أولى بالشكر منك، وهو الله، عز وجل. فسكت عنه معاوية.
فوصل موسى إلى إفريقية وبها صالح الذي استخلفه حسان على إفريقية، وكان البربر قد طمعوا في البلاد بعد مسير حسان، فلما وصل موسى عزل صالحاً وبلغه أن بأطراف البلاد قوماً خارجين عن الطاعة، فوجه إليه ابنه عبد الله فقاتلهم فظفر بهم، وسبى منهم ألف رأس وسيره في البحر إلى جزيرة ميورقة، فنهبها وغنم منها مالا يحصى وعاد سالماً، فوجه ابنه هارون إلى طائفة أخرى فظفر بهم وسبى منهم نحو ذلك وتوجه هو بنفسه إلى طائفة أخرى فغنم نحو ذلك، فبلغ الخمس ستين ألف رأس من السبي، ولم يذكر أحد أنه سمع بسبي أعظم من هذا.
ثم إن إفريقية قحطت واشتد بها الغلاء، فاستسقى بالناس وخطبهم ولم يذمر الوليد، وقيل له في ذلك، فقال: هذا مقام لا يدعى فيه لأحد ولا يذكر إلا الله، عز وجل، فسقى الناس ورخصت الأسعار، ثم خرج غازياً إلى طنجة يريد من بقي من البربر، وقد هربوا خوفاً منه، فتبعهم وقتلهم قتلاً ذريعاً حتى بلغ السوس الأدنى لا يدافعه أحد، فاستأمن البربر إليه وأطاعوه، واستعمل على طنجة مولاه طارق بن زياد، ويقال: إنه صدفي. وجعل معه جيشاً كثيفاً جلهم من البربر، وجعل معهم من يعلمهم القرآن والفرائض، وعاد إلى إفريقية. فمر بقلعة مجانة فتحصن أهلها منه وترك عليها من يحاصرها مع بشر بن فلان، ففتحها، فسميت قلعة بشر إلى الآن، وحينئذٍ لم يبق له في إفريقية من ينازعه.
وقيل: كانت ولاية موسى سنة ثمان وسبعين، استعمله عليها عبد العزيز بن مروان، وهو حينئذٍ على مصر لأخيه عبد الملك.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية أذربيجان ففتح حصوناً ومدائن هناك. وحج بالناس عمر بن عبد العزيز، وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفي هذه السنة مات عبد الله بن ثعلبة بن صغير العذري حليف بني زهرة، وكان مولده قبل الهجرة بأربع سنين، وقيل: ولد سنة ست من الهجرة.
صعير بضم الصاد، وفتح العين المهملتين.
وفيها مات ظليم مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بإفريقية.
ظليم بفتح الظاء المعجمة، وكسر اللام. ثم دخلت:

.سنة تسعين:

.ذكر فتح بخارى:

قد ذكرنا ورود كتاب الحجاج إلى قتيبة بأمره بالتوبة عن انصرافه عن وردان خذاه ملك بخارى ويعرفه الموضع الذي يأتي بلده منه، فلما ورد الكتاب على قتيبة خرج غازياً إلى بخارى سنة تسعين، فاستجاش وردان خذاه بالصغد والترك من حوله فأتوه، وقد سبق إليها قتيبة فحصرها، فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إلى المسلمين يقاتلونهم، فقالت الأزد: اجعلونا ناحيةً وخلوا بيننا وبين قتلاهم. فقال قتيبة: تقدموا وقاتلوهم قتالاً شديداً، ثم إن الأزد انهزموا حتى دخلوا العسكر وركبهم المشركون فحطموهم حتى أدخلوهم عسكرهم وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، فكروا راجعين، فانطوت مجنبتا المسلمين على الترك فقاتلوهم حتى ردوهم إلى مواقفهم، فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم عن هذا الموضع؟ فلم يقدم عليهم أحد من العرب، فأتى بني تميم فقال لهم: يوم كأيامكم، فأخذ وكيع اللواء وقال: يا بني تميم أتسلمونني اليوم؟ قالوا: لا يا أبا مطرف.
وكان هريم بن أبي طحمة على خيل تميم، ووكيع رأسهم، فقال وكيع: يا هريم قدم خيلك. ودفع إليه الراية، فتقدم هريم وتقدم وكيع في الرجالة، فانتهى هريم إلى نهر بينهم وبين الترك، فوقف فقال وكيع: تقدم يا هريم، فنظر هريم نظر الجمل الهائج الصائل وقال: أأقحم الخيل هذا النهر؟ فإن انكشفت كان هلاكها يا أحمق. فقال وكيع: يا بن اللخناء ترد أمير! فحذفه بعمود كان معه، فعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر فعمل عليه جسراً من خشب وقال لأصحابه: من وطن نفسه على الموت فليعبر وإلا فليثبت مكانه. فما عبر معه إلا ثمانمائة رجل، فلما عبر بهم ودنا من العدو قال لهريم: غني مطاعنهم فاشغلهم عنا بالخيل، فحمل عليهم حتى خالطهم، وحمل هريم في الخيل فطاعنوهم، ولم يزالوا يقاتلونهم حتى حدروهم من التل، ونادى قتيبة: ما ترون العدو منهزمين؟ فلم يعبر أحد النهر حتى انهزموا، وعبر الناس، ونادى قتيبة: من أتى برأس فله مائة، فأتي برؤوس كثيرة، فجاء يومئذٍ أحد عشر رجلاً من بني قريع كل رجل برأس، فيال له: من أنت؟ فيقول: قريعي. فجاء رجل من الأزد برأس، فيل له: من أنت؟ فقال: قريعي، فعرفه جهم بن زحر، فقال: كذب، والله إنه أزدي. فقال له قتيبة: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: رأيت كل من جاء يقول قريعي فظننت أنه ينبغي لكل من جاء برأس يقوله. فضحك قتيبة.
وجرح خاقان وابنه، وفتح الله عليهم، وكتب قتيبة بالفتح إلى الحجاج.

.ذكر صلح قتيبة مع الصغد:

لما أوقع قتيبة بأهل بخارى هابه الصغد فرجع طرخون ملكهم ومعه فارسان، فدنا من عسكر قتيبة فطلب رجلاً يكلمه، فأرسل إليه قتيبة حيان النبطي، فطلب الصلح على فدية يؤديها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب وصالح، ورجع طرخون إلى بلاده ورجع قتيبة ومعه نيزك.
حيان بالحاء المهملة، والياء المشددة تحتها نقطتان، وآخره نون.

.ذكر غدر نيزك وفتح الطالقان:

قيل: لما رجع قتيبة من بخارى ومعه نيزك وقد خاف لما يرى من الفتوح فقال لأصحابه: أنامع هذا ولست آمنه فلو استأذنته ورجعت كان الرأي. قالوا: افعل. فاستأذن قتيبة فأذن له وهو بآمل، فرجع يريد طخارستان وأسرع السير حتى أتى النوبهار فنزل يصلي فيه ويتبرك به، وقال لأصحابه: لا أشك أن قتيبة قد ندم على إذنه لي وسيبعث إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي.
وندم قتيبة على إذنه له فأرسل إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك، وسار نيزك وتبعه المغيرة فوجده قد دخل شعب خلم، فرجع المغيرة، وأظهر نيزك الخلع وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى باذان ملك مرو الوذ وإلى ملك الكالقان وإلى ملك الفارياب وإلى ملك الجوزجان أن يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، فواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزو قتيبة، وكتب إلى كابل شاه يستظهر به وبعث إليه بثقله وماله وسأله أن يأذن له إن اضطر إليه أن يأتيه، فأجابه إلى ذلك.
وكان جبغويه ملك طخارستان ضعيفاً، فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب لئلا يخالف عليه، وكان جبغويه هو الملك، ونيزك عبده، فاستوثق منه وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه. وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء وقد تفرق الجند، فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في اثني عشر ألفاً إلى البورقان، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئاً، فإذا انقضى الشتاء سر نحو طخارستان، واعلم أني قريب منك.
فسار، فلما كان آخر الشتاء كتب قتيبة إلى نيسابور وغيرها من البلاد ليقدم عليه الجنود، فقدموا قبل أوانهم، فسار نحو الطالقان، وكان ملكها قد خلع وطابق نيزك على الخلع، فاتاه قتيبة فأوقع بأهل الطالقان فقتل من أهلها مقتلةً عظيمةً وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد، ثم انقضت السنة قبل محاربة نيزك، وسنذكر تمام خبره سنة إحدى وتسعين إن شاء الله.

.ذكر هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج:

قيل: وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته الذين كانوا معه في سجن الحجاج، وكان الحجاج قد خرج إلى رستقاباذ للبعث لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على فارس، وخرج معه يزيد بن المهلب وإخوته عبد الملك والمفضل في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريب منه، وجعل عليهم الحرس من أهل الشام، وطلب منهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، فكان يزيد يصبر صبراً حسناً، وكان ذلك مما يغيظ الحجاج منه. فقيل للحجاج إنه رمي في ساقه بنشابة فثبت نصلها فيه فهو لا يمسها إلا صاح، فأمر أن يعذب في ساقه، فلما فعلوا به ذلك صاح، وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج. فلما سمعت صوته صاحت وناحت، فطلقها الحجاج، ثم إنه كف عنهم وأقبل يستأديهم وهم يعملون في التخلص، فبعثوا إلى أخيهم مروان، وكان بالبصرة، أن يضمن لهم خيلاً ويري الناس أنه يريد بيعها لتكون عدة. ففعل ذلك، وكان أخوه حبيب يعذب بالبصرة أيضاً.
فصنع يزيد للحرس طعاماً كثيراً وأمر لهم بشراب، فسقوا واشتغلوا به، ولبس يزيد ثياب طباخه وخرج وقد جعل له لحيةً بيضاء، فرآه بعض الحرس فقال: كانت هذه مشية يزيد، فجاء إليه فرأى لحيته بيضاء في الليل، فتركه وعاد، فخرج المفضل ولم يفطن له، فجاؤوا إلى سفن معدة فركبوها، يزيد والمفضل وعبد الملك، وساروا ليلتهم حتى أصبحوا، فلما أصبحوا علم بهم الحرس فرفعوا خبرهم إلى الحجاج، ففزع وظن أنهم يفسدون خراسان لفتنوا بها، فبعث البريد إلى قتيبة بخبرهم ويأمره بالحذر.
ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل فخرجوا عليها ومعهم دليل من كلب، فاخذوا طريق الشام على طريق السماوة، وأتى الحجاج بعد يومين فقيل له: إنهم أخذوا طريق الشام، فبعث إلى الوليد بن عبد الملك يعلمه.
ثم سار يزيد فقدم فلسطين فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي، وكان كريماً على سليمان بن عبد الملك، فجاء وهيب إلى سليمان فأعلمه بحال يزيد وإخوته وأنهم قد استعاذوا به من الحجاج، قال: فأتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبد وأنا حي. فجاء بهم إليه، وكانوا في مكان آمن.
وكتب الحجاج إلى الوليد: إن آل المهلب خانوا أمان الله وهربوا مني ولحقوا بسليمان. وكان الوليد قد حذرهم وظن أنهم يأتون خراسان للفتنة بها، فلما علم أنهم عند أخيه سليمان سكن بعض ما به وطار غضباً للمال الذي ذهب به، فكتب سليمان إلى الوليد: إن يزيد عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف لأن الحجاج أغرمه ستة آلاف ألف فأدى ثلاثة آلاف ألف، والذي بقي عليه أنا أؤديه. فكتب الوليد: والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي. فكتب: لئن أنا بعثت به إليك لاجئين معه. فكتب الوليد: والله لئن جئتني لا أؤمنه. فقال يزيد: أرسلني إليه فوالله ما أحب أن أوقع بينه وبينك عداوةً ولا أن يتشأم الناس بي لكما، واكتب معي بألطف ما قدرت عليه.
فأرسله وأرسل معه ابنه أيوب، وكان الوليد قد أمره أن يبعث به مقيداً. فقال سليمان لابنه: إذا دخلت على أمير المؤمنين فادخل أنت ويزيد في سلسلة. ففعل ذلك. فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة قال: لقد بلغنا من سليمان. ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمه وقال له: يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك لا تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها، ولا تقطع ما رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعز بابك.
فقرأ الوليد كتاب سليمان فإذا هو يستعطفه ويشفع إليه ويضمن إيصال المال، فلما قرأ المتاب قال: لقد شققنا على سليمان. وتكلم يزيد واعتذر، فآمنه الوليد، فرجع إلى سليمان، وكتب الوليد إلى الحجاج: إني لم أصل إلى يزيد وأهله مع سليمان، فاكفف عنهم فكف عنهم.
وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف فتركها وكف عن حبيب بن المهلب.
وأقام يزيد بن المهلب عند سليمان يهدي إليه الهدايا ويصنع له الأطعمة، وكان لا يأتي يزيد هيدة إلا بعث بها إلى سليمان، ولا يأتي سليمان هدية إلا بعث بنصفها إلى يزيد، وكان لا تعجبه جارية إلا بعث بها إلى يزيد.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح الحصون الخمسة التي بسورية، وغزا عباس بن الوليد حتى بلغ أرزن وبلغ سورية. وفيها استعمل الوليد بن عبد الملك قرة بن شريك على مصر وعزل أخاه عبد الله بن عبد الملك. وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فأهداه ملكهم إلى الوليد.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، وكان أميراً على مكة والمدينة والطائف. وكان على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وعامله على البصرة الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك.
وفيها مات أنس بن مالك الأنصاري، وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وقيل: ثلاث وتسعين، وكان عمره ستاً وتسعين سنة، وقيل: مائة وست سنين، وقيل: وسبع، وقيل وثلاث. وفيها مات أبو العالية الرياحي في شوال. وفيها توفي نصر بن عاصم الليثي النحوي، وأخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي، وقيل: مات سنة تسعين. ثم دخلت:

.سنة إحدى وتسعين:

.ذكر تتمة خبر قتيبة مع نيزك:

قد ذكرنا مسير قتيبة إلى نيزك وما جرى له بالطالقان وقتل بها، فلما فتح الطالقان استعمل أخاه عمر بن مسلم، وقيل: إن ملكها لم يحارب قتيبة فكف عنه، وكان بها لصوص فتلهم قتيبة وصلبهم، ثم سار قتيبة إلى الفارياب فخرج إليه ملكها مقراً مذعناً، فقبل منه ولم يقتل بها أحداً واستعمل عليها رجلاً من أهله.
وبلغ ملك الجوزجان خبرهم فهرب إلى الجبال، وسار قتيبة إلى الجوزجان، فلقيه أهلها سامعين مطيعين، فقبل منهم ولم يقتل بها أحداً، واستعمل عليها عامر بن مالك الحماني.
ثم أتى بلخ فلقيه أهلها فلم يقم بها إلا يوماً واحداً وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب خلم ومضى نيزك إلى بغلان وخلف مقاتلة على فم الشعب ومضايقه ليمنعوه، ووضع مقاتلته في قلعة حصينة من وراء الشعب. فأقام قتيبة أياماً يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقاً يسلكه إلى نيزك إلا الشعب. فأقام قتيبة أياماً يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقاً يسلكه إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحتملها العساكر، فبقي متحيراً، فقدم إنسان فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي من وراء الشعب، فآمنه قتيبة وبعث معه رجالاً فانتهى بهم إلى القلعة من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون فقتلوهم، وهرب من بقي منهم ومن كان في الشعب، فدخل قتيبة الشعب فأتى القلعة ومضى إلى سمنجان فأقام بها أياماً ثم سار إلى نيزك وقدم أخاه عبد الرحمن.
فارتحل نيزك من منزله فقطع وادي فرغانة ووجه ثقله وأمواله إلى كابل شاه ومضى حتى نزل الكرز وعبد الرحمن يتبعه، فنزل عبد الرحمن حذاء الكرز، ونزل قتيبة بمنزل بينه وبين عبد الرحمن فرسخان، فتحصن نيزك في الكرز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد وهو صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قل ما في يد نيزك من الطعام وأصابهم الجدري وجدر جبغويه.
وخاف قتيبة الشتاء فدعا سليماً الناصح فقال: انطلق إلى نيزك واحتل لتأتيني به بغير أمان، فإن احتال وأبى فآمنه، واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك. قال: فاكتب إلى عبد الرحمن لا يخالفني، فكتب إليه، فقدم عليه، فقال له: ابعث رجالاً ليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشعب. فبعث عبد الرحمن خيلاً، فكانت هناك، وحمل سليم مع أطعمة وأخبصة أوقاراً وأتى نيزك فقال له: إنك أسأت إلى قتيبة وغردت. قال نيزك: فما الرأي؟ قال: أرى أن تأتيه فإنه ليس ببارح، وقد عزم على أن يشتو مكانه هلك أو سلم. قال نيزك: فكيف آتيه على غير أمان؟ قال: ما أظنه يؤمنك لما في نفسه عليك لأنك قد ملأته غيظاً، ولكني أرى أن لا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فإني أرجو أن يستحي ويعفو عنك، قال: إني أرى نفسي تأبى هذا وهو إن رآني قتلني. فقال سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وعود حالك عنده، فإذا أبيت فإني منصرف.
وقدم سليم الطعام الذي معه، ولا عهد لهم بمثله، فانتهبه أصحاب نيزك، فساءه ذلك، فقال له سليم: إني لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا وإن طال بهم لحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك فأت قتيبة. فقال: لا آمنه على نفسي ولا آتيه إلا بأمان، وإن ظني أن يقتلني وإن آمنني، ولكن الأمان أعذر إلي. فقال سليم: قد آمنك، أفتتهمني؟ قال: لا. وقال له أصحابه: اقبل قول سليم فلا يقول إلا حقاً.
فخرج معه ومع جبغويه وصول طرخان، خليفة جبغويه، وحبس طرخان صاحب شرطته وشقران ابن أخي نيزك، فلما خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم فحالوا بين الأتراك أصحاب نيزك والخروج، فقال نيزك: هذا أول الغدر. قال سليم: تخلف هؤلاء عنك خير لك. وأقبل سليم ونيزك ومن معه حتى دخلوا إلى قتيبة فحبسهم وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك. واستخرج قتيبة ما كان في الكرز من متناع ومن كان فيه، فقدم به على قتيبة. فانتظر بهم كتاب الحجاج، فاتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يوماً يأمره بقتل نيزك، فدعا قتيبة الناس واستشارهم في قتله، واخلفوا، فقال ضرار بن حصين: إني سمعتك تقول: أعطيت الله عهداً إن أمكنك منه أن تقتله فإن لم تفعل فلا ينصرك الله عليه أبداً.
فدعا نيزك فضرب رقبته بيده وأمر بقتل صول وابن أخي نيزك، وقتل من أصحابه سبعمائة، وقيل: اثني عشر ألفاً، وصلب نيزك وابن أخيه، وبعث برأسه إلى الحجاج، وقال نهار بن توسعة في قتل نيزك:
لعمري نعمت غزوة الجند غزوةً ** قضت نحبها من نيزكٍ وتعلت

وأخذ الزنير مولى عباس الباهلي حقاً لنيزك فيه جوهر، وكان أكثر من في بلاده مالاً وعقاراً من ذلك الجوهر، وأطلق قتيبة جبغويه ومن عليه وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد.
كان الناس يقولون: غدر قتيبة بنيزك، فقال بعضهم:
فلا تحسبن الغدر حرماً فربما ** ترقت بك الأقدام يوماً فزلت

فلما قتل قتيبة نيزك رجع إلى مرو، وأرسل ملك الجوزجان يطلب الأمان، فآمنه على أن يأتيه، فطلب رهناً ويعطي رهائن، فأعطاه قتيبة حبيب بن عبد الله بن حبيب الباهلي، وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته، وقدم على قتيبة فصالحه، ثم رجع فمات بالطالقان، فقال أهل الجوزجان: إنهم سموه، فقتلوا حبيباً، وقتل قتيبة الرهائن الذين كانوا عنده.